فصل: تفسير الآيات (48- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (24- 28):

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ويطوفُ عليهم} أي: بالكأس أو: في شأن الخدمة كلها {غِلْمانٌ لهم} أي: مماليك مخصصون بهم، قيل: أولاد الكفار الذين ماتوا صِغاراً، وقيل: تُوجدهم القدرةُ من الغيب، وفي الحديث: «إن أدنى أهل الجنة منزلة مَن يُنادِي الخادِمَ مِن خدامه، فيجيبه ألفٌ، كلهم يُناديه: لبيك لبيك» قلت: هذا في مقام أهل اليمين، وأما المقربون فإذا اهتمُّوا بشيء حضر، بغلامٍ أو بغير غلام، من غير احتياج إلى نداء، وقال ابن عمر رضي الله عنه: (ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه). {كأنهم} من بياضهم وصفائهم {لؤلؤٌ مكنون} مصوف في الصدف؛ لأنه حينئذ يكون أصفى وأبهى، أو مخزون؛ لأنه لا يخزن إلا الثِمن الغالي القيمة. قيل لقتادة: هذا الخادم فكيف المخدوم؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم».
{وأقبل بعضُهم على بعضٍ يتساءلون} يسأل بعضُهم بعضاً عن أحواله وأعماله، وما استحق به نيل ما عند الله، فكل بعض سائر ومسؤول. {قالوا} أي: المسؤولون في جوابهم، وهم كل واحد منهم في الحقيقة: {قالوا} أي: المسؤولون في جوابهم، وهم كل واحد منهم في الحقيقة: {إِنَّا كنا قبلُ في أهلنا} أي: في الدنيا {مُشفقين} أرِقَّاء القلوب من خشية الله، أو: خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان، أو: من ردّ الحسنات وأخذ بالسيئات، أو: واجلين من العاقبة، {فمنَّ اللّهُ علينا} بالمغفرة والرحمة {ووقانا عذابَ السَّموم} وهي الريح الحارة، التي تدخل المسامّ، فسمّيت بها نار جهنم؛ لأنها بهذه الصفة. {إِنَّا كنا قَبلُ} أي: من قبل لقاء الله والمصير إليه- يعنون: في الدنيا: {نَدْعُوه} نعبده ولا نعبد غيره، أو نسأله الوقاية، {إِنه هو البَرُّ} المحسن {الرحيمُ} الكثير الرحمة، الذي إذا عُبد أثاب، وإذا سُئل أجاب، وقرأ نافع والكسائي بالفتح، أي: لأنه، أو بأنه.
الإشارة: ويطوف على قلوبهم علومٌ وهبية، وحِكَمٌ غيبية، تزهو على اليواقيت المكنونة. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون: كيف سلكوا طريق الوصول، وكيف كانت مجاهدة كل واحد ومسيره إلى الله، إما تحدُّثاً بالنعم، أو: للاقتداء بهم، وفي الحِكَم: (عبارتهم إما لفيضان وَجدٍ أو: لهداية مريد). إنَّا كنا قبلُ الوصول في أهلنا، أي: في عالم الإنسانية مشفقين من الانقطاع والرجوع، خائفين من سَموم صفات البهيمية والشيطانية، والشهوات الدنيوية، فإنها تهب بسموم قهر الحق، قهر بها جُلّ عباده فانقطعوا عنه، فمنَّ الله علينا، ووصلنا بما منه إلينا، لا بما منا إليه، ووقانا عذاب السموم، وهو الحرص والجزع، والانقطاع عن الحبيب، ولولا فضله ما تخلّصنا منه، إنّا كنا من قبل الوصول ندعوه أن يأخذ بأيدينا، ويجذبنا إلى حضرته، ويرحمنا بالوصول، ويبرّ بنا، إنه هو البر بمزيده، الرحيم بمَن يُنيب إليه.

.تفسير الآيات (29- 43):

{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)}
يقول الحق جلّ جلاله: {فذكِّرْ} أي: فاثبت على ما أنت عليه من تذكير الناس وموعظتهم، {فما أنت بنعمتِ ربك} أي: بحمده وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل {بكاهنٍ ولا مجنونٍ} كما زعموا، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون، {أم يقولون شاعرٌ نتربصُ به رَيْبَ المَنونِ} أي: حوادث الدهر، أي: ننتظر به نوائب الزمان حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله، زهير والنابغة. و{أم} في هذه الآي منقطعة بمعنى بل. {قل تربصوا فإِني معكم من المتربصين} أتربّص هلاككم، كما تتربصون هلاكي. وفيه عِدة كريمة بإهلاكهم، وقد جرب أنّ مَن تربص موت أحد لِينال رئاسته، أو ما عنده، لا يموت إلا قبله.
{أم تأمرهم أحلامُهم} أي: عقولهم {بهذا} التناقض في المقالات، فإنَّ الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر في الأمور، والمجنون مُغطى عقله، مختل فكره، والشاعر يقول ما لا يفعل، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء في واحد؟ وكانت قريش يُدْعَون أهل الأحلام والنُهي، فكذبهم ما صدر منهم من هذه المقالات المضطربة، {أم هم قوم طاغُون} يجُازون الحدودَ في المكابرة والعناد، ولا يحومون حول الرشد والسداد. وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز.
{أم يقولون تَقوَّله} اختلقته من تلقاء نفسه، {بل لا يؤمنون} ردّ عليهم، أي: ليس الأمر كما زعموا، بل لكفرهم وعنادهم يقذفون بهذه الأباطيل، التي لا يخفى بطلانها على أحد، فكيف يقدر البشر أن يأتي بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم، {فليأتوا بحديثٍ مِثْلِه} أي: مثل القرآن في البلاغة والإعجاز {إِن كانوا صادقين} في أن محمداً تقوّله من تلقاء نفسه؛ لأنه بلغاتهم، وهم فصحاء، مشاركون له صلى الله عليه وسلم في العربية والبلاغة، مع ما لهم من طُول الممارسة للخطب والأشعار، وكثرة المقاولة للنظم والثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام، ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به مع دواعي الأمر بذلك من تعجيزهم وإفحامهم وطلب معارضتهم.
{أم خُلقوا من غير شيءٍ} أي: أم أُحدثوا وقُدّروا هذا التقدير البديع، الذي عليه فطرتهم، من غير محدث ومقدّر. أو: أم خُلقوا من غير شيء من الحكمة، بأن خُلقوا عبثاً، فلا يتوجه عليهم حساب ولا عقاب؟ {أم هم الخالقون} المُوجدون لأنفسهم؟ فيلزم عليه الدور، وهو تقدُّم الشيء على نفسه وتأخُّره عنها، {أم خَلقوا السماوات والأرض} فلا يعبدون خالقِهما {بل لا يُوقنون} لا يتدبرون في الآيات، فيعلمون خالقهم، وخالق السموات والأرض، فيُفردونه بالعبادة.
{أم عندهم خزائنُ ربك} من النبوة والرزق وغيرهما، فيخصُّوا بما شاؤوا مَن شاؤوا، {أم هم المصَيْطِرون} أي: الأرباب الغالبون، المُسلَّطون على الأمور يدبرونها كيف شاؤوا، حتى يُدبروا أمر الربوبية، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم.
وقرأ المكي والشامي بالسين على الأصل.
{أم لهم سُلَّمٌ} منصوب يرتقون به إلى السماء، {يستمعون فيه} كلامَ الملائكة، وما يُوحى إليهم من علم الغيب، حتى يعلموا أن ما هم عليه حق، وما عليه غيرهم باطل، أو ما هو كائن من الأمور التي يتفوّهون بها رجماً بالغيب، ويعلّقون بها أطماعهم الفارغة من هلاكه صلى الله عليه وسلم قبلهم، وانفرادهم بالرئاسة. وفي: سببية، أي: يستمعون بسبب حصولهم فيه، أو: ضمّن {يستمعون} يعرجون. وقال الزجاج: {يستمعون فيه} أي: عليه، {فليأت مُستمعهم بسلطانٍ مبين} بحجة واضحة، تصدق استماع مستمعهم.
ثم سفَّه أحلامهم بقوله: {أم له البناتُ ولكم البنونَ} حيث اختاروا لله ما يكروهون وهم حكماء في زعمهم، {أم تسألُهم أجراً} على التبليغ والإنذار {فهم} لأجل ذلك {من مَغْرَم مُثقلون} أي: من التزام غرامة فادحة محمّلون الثقل، فلذلك لا يتبعونك. والمغرم: أن يُلزم الإنسان ما ليس عليه. {أم عندهم الغيبُ} أي: اللوح المحفوظ، المكتوب فيه الغيوب، {فهم يكتبون} ما فيه، حتى يتكلمون في ذلك بنفي أو إثبات.
{أم يُريدون كيداً} هو كيدهم برسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الندوة، {فالذين كفروا} وهم المذكورون، ووضع الموصول موضع ضميرهم؛ للتسجيل عليهم بالكفر، أي: ف {هم المكِيدُونَ} الذين يحيق بهم كيدّهم، ويعود عليه وبالُه، لا مَن أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر وغيره. {أَم لهم إِلهٌ غيرُ الله} يمنعهم من عذابه، {سبحان الله عما يُشركون} أي: تنزيهاً له عن إشراكهم، أو: عن شركة ما يُشركونه به. وحاصل ما ذكر الحق وتعالى من الإضرابات: أحد عشر، ثمانية طعنوا بها في جانب النبوة، وثلاثة في جانب الربوبية، وهو قوله: {أم خُلقوا من غير شيء}، {أم خَلقوا السماوات والأرض}، {أم لهم إله غير الله} ذكرها الحق تعالى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي: كما طعنوا في جنابك طعنوا في جانبي، فاصبر حتى نأخذهم.
الإشارة: فذكِّر أيها الخليفة للرسول، فما أنت بحمد الله بكاهنٍ ولا مجنونٍ، وإن رموك بشيء من ذلك. قال القشيري: قد علموا أنه صلى الله عليه وسلم بريء من الكهانة والجنون، ولكنهم قالوه على جهة الاشتفاء، كالسفيه إذا بسط لسانه فيمن يشنأُه، بما يعلم أنه بريء مما يقوله. اهـ. وكل ما قيل في جانب النبوة يُقال مثله في جانب الولاية، سُنَّة ماضية. قال القشيري: طبع الإنسان متنفرة من حقيقة الدين، مجبولة على حب الدنيا والحظوظ، لا يمكن الخروج منها إلا بجهد جهيد، على قانون الشريعة، ومتابعة الرسول عليه السلام وخلفائه، وهم العلماء الربانيون، الراسخون في العلم بالله، من المشايخ المُسلِّكين في كل زمان، والخلق مع دعوى إسلامهم يُنكرون على سيرهم في الأغلب، ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة، والانقطاع عن الخلق، والتبتُّل إلى الله، وطلب الأمن.
كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيَّدهم بروح منه، وهو الصدق في الطلب، وحسن الإرادة المنتجَة من بذر {يُحبهم ويُحبونه} وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. اهـ. مختصراً.
وقوله تعالى: {قل تربصوا...} الآية، قال القشيري: ولا ينبغي لأحد أن يتمنى نفاق سوقه بموت أحد، لتنتهي النوبة إليه، قَلَّ ما تكون هذه صفته إلا سَبَقَته منيتُه، ولا يدرك ما تمناه. اهـ. وقال في مختصره: الآية تُشير إلى التصبُّر في الأمور، ودعوة الخلق إلى الله، والتوكُّل على الله فيما يجري على يد عباده، والتسليم لأحكامه في المقبولين والمردودين. اهـ. وقوله: {أم تأمرهم أحلامُهم بهذا}... إلى قوله: {عما يشركون} هذه صفة أهل الانتقاد على أهل الخصوصية في كل زمان، وهي تدلّ على غاية حمقهم وسفههم، نجانا الله من جميع ذلك.

.تفسير الآيات (44- 47):

{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وإِن يَرَوا كِسْفاً} قطعة {من السماء ساقطاً} عليهم لتعذيبهم، {يقولوا} من فرط طغيانهم وعنادهم: هذا {سَحَابٌ مركومٌ} أي: تَرَاكَم بعضها على بعض لمطرنا، ولم يُصدقوا أنه ساقط عليهم لعذابهم، يعني: أنهم بلغوا في الطغيان بحث لو أسقطناه عليهم حسبنا قالوا: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 92] لعاندوا وقالوا سحاب مركوم. {فذرهم حتى يُلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون}، وهو اليوم الذي صُعقوا فيه بالتقل يوم بدر، لا عند النفخة الأولى، كما قيل؛ إذ لا يصعق بها إلا مَن كان حيّاً حينئذ. وقرأ عاصم والشامي بضم الياء، يقال: صعقه، فصُعق، أو: من أصعقه.
{يوم لا يُغني عنهم كيدُهم شيئاً} من الإغناء، بدل من يومهم ولا يخفى أن التعرُّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له في الانتفاع به، وليس ذلك إلا ما دبّروه في أمره صلى الله عليه وسلم من الكيد يوم بدر، من مناشبتهم القتال، وقصد قتله خفية، وليس يجري في نفخة الصعق شيء من الكيد والحيل، فلا يليق حمله عليه. {ولا هم يُنصرون} من جهة الغير في دفع العذاب عنهم.
{وإِنَّ للذين ظلموا} أي: لهم، ووضع الموصول موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالظلم، أي: وإنَّ لهؤلاء الظلمة {عذاباً} آخر {دون ذلك} دون ما لاقوه من القتل، أي: قبله، وهو القحط الذي أصابهم، حتى أكلوا الجلود الميتة. أو: وإنَّ لهم عذاباً دون ذلك، أي: وراءه، وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة. {ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون} أن الأمر كما ذكر، وفيه إشارة إلى أن فيهم مَن يعلم ذلك، وإنما يصر على ذلك عناداً: أو لا يعلمون شيئاً أصلاً؛ إذ هم جاهلية جهلاء.
الإشارة: أهل الحسد والعناد لا ينفعهم ما يرونه من المعجزات والكرامات، أو الحسد يُغطي نور البصيرة، فذرهم في غفلتهم وحيرتهم، وكثافة حجابهم، حتى يُصعقوا بالموت؛ فيعرفون الحق، حين لا تنفع المعرفة فيقع الندم والتحسُّر، وإنَّ لهم عذاباً دون ذلك، وهو عيشهم في الدنيا عيش ضنك في هَم وغم وجزع وهلع، ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون ذلك؛ لأنهم لا يرون إلا مَن هو مثلهم. ومَن توسعت دائرة معرفته، فعاش في روح وريحان، فهو غائب عنهم، لا يعرفون مقامه، ولا منزلته.

.تفسير الآيات (48- 49):

{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)}
يقول الحق جلّ جلاله: لنبيه صلى الله عليه وسلم ولمَن كان على قدمه: {واصبرْ لحُكم ربك} بإمهالهم إلى اليوم الموعود مع مقاساتك آذاهم، أو: واصبر لِمَا حكم به عليك من شدائد الوقت، وإذاية الخلق، {فإِنك بأعيُننا} أي: حفظنا وحمايتنا، بحيث نراقبك ونكلؤك. والمراد بالحُكم: القضاء السابق، أي: لما قُضي به عليك، وفي إضافة الحُكم إلى عُنوان الربوبية تهييج على الصبر، وحل عليه، أي: إنما هو حُكم سيدك الذي يُربيك ويقوم بأمورك وحفظك، فما فيه إلا نفعك ورفعة قدرك. وجمع العين والضمير للإيذان بغاية الاعتناء بالحفظ والرعاية. {وسبِّح بحمد ربك} أي: نزِّهه ملتبساً بحمده على نعمائه الفائتة للحصر، {حين تقومُ} أي: من أيّ مكان قمت، أو: من منامك. وقال سعيد بن جبير: حين تقوم من مجلسك تقوم: سبحانك اللهم وبحمدك. وقال الضحاك والربيع: إذا قمت إلى الصلاة فقل: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّكَ، ولا إله غيرك. اهـ. {ومن الليل فسبِّحه} أي: في بعض الليل وأفراده؛ لأن العبادة فيه أشق على النفس، وأبعد من الرياء، كما يلوح به تقدميه على الفعل، والمراد إما الصلة في الليل، أو التسبيح باللسان؛ سبحان الله وبحمده، {وإِدبار النجوم} أي: وقت إدبارها، أي: غيبتها بضوء الصبح، والمراد: آخر الليل، وقيل: التسبيح من الليل: صلاة العشاء، وإدبار النجوم: صلاة الفجر. وقرأ زيدٌ عن يعقوب بفتح الهمز، أي: أعقابها إذا غربت.
الإشارة: في هذه تسلية لأهل البلاء والجلال، فإنّ مَن عَلِمَ أن ما أصابه إنما هو حُكم ربه، الذي يقوم به ويحفظه، وهو بمرئً منه ومسمَعٍ، لا يهوله ما نزل، بل يزيده غبطةً وسروراً؛ لعلمه بأنه ما أنزله به إلا لرفعة قدره، وتشحير ذهب نفسه، وقطع البقايا منه، فهو في الحقيقة نعمة لا نقمة، وفي الحِكَم: (مَن ظنّ انفكاك لطف الله عن قدره، فذلك لقصور نظره).
قال القشيري: أي: اصبر لما حكم به في الأزل، فإنه لا يتغير حكمنا الأول إن صبرت وإن لم تصبر، لكن إن صبرت على قضائي جزيت ثواب الصابرين بغير حساب، وفيه إشارة أخرى، أي: اصبر فإنك بأعيينا نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} [النحل: 127]. اهـ. وقيل المعنى: فإنك من جُملة أعيننا، وأعيان الحق الكُمل من الأنبياء، والرسل، والملائكة، وأكابر أوليائه، فإنهم أعيان تجلياته، ولذلك الإشارة بقوله عمر رضي الله عنه في شأن عليّ- كرّم الله وجهه- حين ضرب شخصاً فشكاه: أصابته عين من عيون الله، وذلك لما تمكنوا من سر الحقيقة، صاروا عين العين. ومن ذلك قولهم: ليس الشأن أن تعرف الاسم، إنما الشأن أن تكون عين الاسم، أي: عين المُسمّى، وهو سر التصرُّف بالهوية عند التمكين فيها، وتمكُّن غيبة الشهود في الملك المعبود، وقوله تعالى: {وسبح بحمد ربك...} إلخ، فيه إشارة إلى مداومة الذكر، والاستغراق فيه، ودوام التنزيه لله تعالى عن رؤية شيء معه. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.